علبة الجبن التي لا أنساها
تَقْدِمَةٌ
العطاء لذة وسعادة للمعطي، قبل أن يكون لذة وسعادة للآخذ. وأجمل العطاء قذفا في النفس سيولاً من السعادة وفيضانات من السرور؛ هو العطاء مما تحبه، والعطاء لما أنت بحاجة إليه، كما قال تعالى : (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) [آل عمران: ۹۲) ، وكما قال سبحانه وتعالى عن الأنصار: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: ٩).
وفي هذا الموقف، حكاية واقعية عن علبة جين لم ينسها صاحبها ما بقي ... تعال نستمع إليه ونعرف سرها :
يقول أحدهم : في إحدى أيام الشتاء، ذهبت وقت العصر - وهو وقت غفلة بعد الدوامات والأعمال غالبا - لإحدى البقالات، واشتريت بعض حاجات المنزل.
في طريق العودة لمحت امرأة مع ابنتها الصغيرة ذات الخمس سنوات تنقبان في حاوية كبيرة للقمامة موضوعة في ساحة تحفها عشرات العمارات والشقق السكنية، ولا تسأل عن رثاثة الثياب، وسوء المنظر والنظافة.
يقول: فأوقفت عجلات السيارة، وأنزلت طرفاً من زجاجة النافذة قائلاً لها: عن ماذا تبحثين يا أختي ؟ فقالت: أجمع بقايا الطعام والخير، ثم أقوم بتنظيفه ووضعه في الشمس، ثم أطعمه أولادي الصغار. وقد كانت بالفعل تحمل كيساً نظيفاً شفافاً استطاعت أن تجمع فيه كسر خبز وأشياء أخر.
يقول هذا الرجل، لقد هزني الموقف، وحزك وجداني، وودت لو أنتي أملك من المال ما يمكنني أن أغير من هيئتهم بل من حياتهم، ولم يكن قد تبقى معي من مال أحمله في محفظتي سوى بضعة دنانير، فأخرجتها واعطيتها. ثم قمت مباشرة بفتح كيس البقالة، واقتسمت كل ما فيه.. فلما نظرت إلى الجبن، فإذا هو علبة واحدة اشتريتها لا ثاني لها، وكانت هي سبب خروجي من المنزل أصلاً للذهاب إلى البقالة، وجاءني الشيطان سريعاً بأزة اللعين ليقول: كفاك ما أعطيتها علبة الجين لك زوجتك تنتظر العلبة لتصنع الطعام لأولادك.. لكنني قطعت عليه السبيل سريعاً فقلت : تفضلي علبة الجين.
هنا، شعرت بسرور غريب يغمرني، وسعادة عظيمة تحفني، وعدت إلى البيت وأنا أحمل معي هذا الشعور، فوضعت ما تبقى من أغراض البقالة بين يدي زوجتي، فلم تسأل عن جبن ولا غيره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
محمد الملا الجفيري. من روائع وبدائع القصص الواقعية والافتراضية في الصدقات. الكويت: دار مرويات للطباعة والنشر، 2020م.
الموقع الإلكتروني: