عائلة كويتية كريمة مثال للأمانة والوفاء

د. عبد المحسن الخرافي
ضرب أهل الكويت الكرام نماذجَ رائعة تُحتذَى في حفظ الأمانة والوفاء بحقوق الخلق مهما طال عليها الزمن.
وحول هذا المعنى الرفيع نورد هذه القصة الواقعية والتي تتجسد فيها المعاني الحقيقية للأمانة والوفاء، متمثلة في الأب والأبناء من بعده وهم من عائلة «الأستاد» الكرام، وقد روى أحداثها لنا الأخ الفاضل عبدالرسول حسن عبدالرسول الأستاد (بومحمود)، وفيها يقول: «كان لوالدي التاجر حسن عبدالرسول الأستاد رحمه الله، معرفة مع عزرة (اليهودي) والد صالح الكويتي (المغني) وأخيه داود الكويتي (الملحن والعازف)، وهم من اليهود الذين سكنوا الكويت على الرغم من أنهم عراقيو الأصل، وقد تملك عزرة بيتاً في الكويت نظراً لغناه وتوافر الأموال معه، والتي يرجع الأصل في تكوينها إلى اشتغاله بتجارة الذهب (صائغ)، وقد كانت تجارة الذهب تشهد رواجاً كبيراً عند أهل الكويت في ذلك الوقت، مما جعل الصاغة يجنون من تلك التجارة أرباحاً طيبة مكنتهم من تملك البيوت وتكوين ثروة لا بأس بها، وكان عزرة وأبناؤه يسكنون في فريج الشيوخ بالقرب من منطقة الصاغة، وهذا الموقع ليس بعيداً عن مسجد السوق الكبير في موقعه الحالي.
وعندما بدأت الحرب العربية الإسرائيلية سنة 1948م، بدأ اليهود يكشفون علناً على مرأى ومسمع من العالم أجمع عداءهم للعرب وللمسلمين.
وعلى أثر ذلك توجه المجتمع الكويتي بأسره إلى عدم الارتياح لهم وتحديد التعامل معهم، الأمر الذي ألجأهم وباختيارهم في معظم الأحيان إلى بيع ممتلكاتهم وهجرتهم إلى خارج الكويت، لكي يلتحقوا بإسرائيل أو أي مكان يجتمعون فيه.
ويستطرد الأخ عبدالرسول الأستاد حديثه قائلاً: «وأمام هذا التحرك الرسمي والشعبي نحو نصرة القضية الفلسطينية والتضييق على اليهود على إثرها، لم يكن من عزرة والد صالح وداود إلا أن يترك وثيقة بيته مع الوالد رحمه الله، وقام بعمل توكيل رسمي باسمه للتصرف في بيع البيت، وذلك بحكم أنهم كانوا جيرانا، وكانت تربطهم علاقات طيبة نظراً لعلاقة الصداقة بين أختي وأخت صالح وداود، وأبلغ عزرة والدي بعزمهم على الرحيل إلى خارج البلاد، وقال له: أنت حر التصرف في البيت، فإن استطعت أن تبيعه وترسل لنا المال فلك جزيل الشكر، وإن تعذر ذلك فالبيت حلالٌ عليك !!
ومرت الأيام تلو الأيام والوالد لا يعلم شيئاً عن عزرة وأبنائه، ولم يعرف لهم مكاناً ولا وسيلة للتواصل معهم، وفي المقابل فقد انقطعت أخبارهم حتى إنهم لم يحاولوا التواصل مع الوالد والسؤال عن حلالهم.
وعندما قررت الحكومة الكويتية تثمين البيوت في تلك المنطقة، وكان بيت عزرة من بين تلك البيوت قام الوالد بتسلم ثمن البيت (كان المبلغ وقتها بالروبية وتم إيداعه بالبنك، وقد تحول تلقائيا إلى ما يوازيه بالدينار بعد استقلال الكويت) وهو مبلغ كبير في ذلك الوقت يكفي لشراء بيت آخر أكبر في منطقة أخرى ويزيد، ولكن الوالد رحمه الله من أمانته ووفائه وضع الأموال في البنك وأخبرنا، نحن أبناءه، أن هذه الأموال ليست من حقنا من بعده، بل هي لديه على سبيل الأمانة المؤقتة حتى نجد صاحبها أو أبناءه، وأوصانا بحفظ الأمانة ومحاولة إرجاع المبلغ إلى أهله إذا تيسر لنا ذلك».
ويستأنف قائلاً: وتمضي الأيام بل الأعوام سريعاً وبعد مرور خمسين عاماً تقريباً على هذه الحادثة، وتحديداً في عام 1998م يشاء تقدير المولى عز وجل أن ألتقي في إحدى سفراتي للعلاج خارج الكويت في لندن أنا وأبنائي - وقد اعتدنا على ذلك بين فترة وأخرى - مع أحد المعارف العراقيين وتبادلنا الحديث، فعلم مني بأمر عزرة، فأخبرته بأن لدي أمانة مهمة له أو لورثته وكان يعرفهم، فجمعني بهم من الغد، وبالفعل جاء من الغد وحضر معه صالح، وطلبت منه إحضار أخيه داود وأخته من الغد لأن الأمانة التي عندنا تخصهم الثلاثة، وبالفعل جاء من الغد الإخوة الثلاثة صالح وداود وأختهم، فقصصت عليهم قصة تثمين البيت، ووصية والدي حسن عبدالرسول الأستاد بحفظ الأمانة لأهلها، وطلبت رقم حسابهم البنكي المتفق عليه بينهم الثلاثة في لندن لتحويل المبلغ عليه عند العودة إلى الكويت، وبالفعل بعد العودة إلى الكويت مباشرة قمت بتحويل المبلغ كاملاً، والذي كانت قيمته آنذاك 24 ألف دينار كويتي على رقم الحساب المتفق عليه بين الإخوة الثلاثة، ووصلت الأمانة إلى أهلها بعد أكثر من خمسين عاماً، فشكروا لنا حفظ الأمانة وأثنوا خيراً على الوالد رحمه الله الذي حفظها وأوصى بإيصالها إلى أهلها، وعلى أبنائه الذين حرصوا على تنفيذ وصية والدهم طوال هذه المدة من الزمن.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
مجلة التميز الإنساني، عدد 16.