أم المعاقين .. وبعد ٥٧ سنة
تَقْدِمَةٌ

في منطقة حولي الشهيرة عاشت أم أحمد، تلك المرأة الفلسطينية الكبيرة منذ ما يزيد على ٦٠ سنة وربما أكثر. وقد أنجبت أربعة أولاد ذكور، قدر الله أن يكون جميعهم من ذوي الإعاقة الحركية والعقلية الشديدة ( جداً جداً جداً ) ! فبدأت رحلتها مع المعاناة اليومية المستمرة، أسأل الله أن يثيبها على صبرها بأن يفتح لها أبواب الجنة الثمانية تلقاء ما تعانيه من اهتمام بهم ورعاية لهم، ولزوجها الذي طعن في السن، ورق عظمه، ودَبَّت فيه الأمراض التي أقعدته عن الاستمرار في العمل.
تعال تتعرف على قصتها وتعففها وتسخير الله الناس لها :
أتذكر قبل سنوات عديدة ما يقارب ٨ سنوات تقريباً ... جاءني رجل صالح كبير في السن، أعرفه في المسجد والصلوات والخطب وهو بالمناسبة قريب لجدي رحمه الله من جهة والدتي حفظها الله وشافاها فقال لي: يا شيخ محمد، إذا عندك من مال الزكاة الذي يأتي به بعض المزكين إليك ما هو زائد عن الحالات التي لديك، فعندي حالات أعرفها وأتفقدها منذ سنوات طويلة، وأتعاهدها بالصدقات والزكوات. فقلت له: أبشر يا عم. هل من الممكن أن تزودني بمعلومات عن هذه الحالات (عددها – حالتها - حاجاتها ... إلخ). فجاءني من الغد، وأحضر معه دفتراً بالياً ذا ورقات مضفرة يدل حاله على أنه يقوم بهذا العمل الخيري منذ سنوات عديدة، وبدأ يتصفحه ويحدثني عن كل حالة. وكان من بين الحالات هذه المرأة الفلسطينية التي يلقبها هو ( بأم المعاقين ).
وذكر لي أن محسناً كويتياً حينما علم بحالها وحال أولادها، جلب لها خادمة تعينها على وظيفتها التي ليست بسهلة والله ! وتكفل هو براتبها - جزاه الله خيراً . فلما عدت إلى المنزل، تحدثت مع والدتي عنها فقالت لي: هذه المرأة أم أحمد أم المعاقين، صديقة جدتك (والدة والدتي)، ومنذ سنوات طويلة تجمع لها الصدقات وتوصلها لها علما بأن جدتي توفيت عام ١٩٦٣م. فقمت مباشرة وتحدثت مع المعارف والمحسنين عن هذه الحالات وحاجاتها، فانهالت التبرعات - كعادة أهل الكويت ومن يعيش معهم ولله الحمد - حتى بلغ نصيب الأسرة الواحدة ما لا يقل عن ۲۰۰ إلى ٣۰۰ دينار من هذه التبرعات.
ومضت السنوات على هذه العادة الحميدة، ففي كل رمضان تأتيني زكاة، أخصص لهذه العوائل الوافدة المحتاجة مبلغاً مجدياً ولله الحمد والمنة. ثم في آخر ثلاث سنوات انقطع الرجل الصالح الذي يتفقد هذه الحالات عن هذا العمل، بعدما أعجزه كبر سنه عن الزيارة والتفقد وايصال المال والتبرعات وحمل الحاجات المتبرع بها إليهم، هكذا بين لي عذره، لكني اخبرت مؤخراً - من بعض قريبات والدتي - أنه لم يعد أحد من أصحابه التجار الكبار حيا لقد ماتوا كلهم لكبر سنهم، ولم يعد يأتيه ما يكفيه لسد حاجات هذه الأسر، حيث لم يقم أبناء هؤلاء التجار بما كان يقوم به آباؤهم سوى واحد أو اثنين، وجدوا دفاتر لوالدهم عن تفاصيل زكاته ومن يسلمه ويوصله. ولقد انشغلت في رمضان عام ۲۰۱۸م بالسفر العلاج ابني البراء (حفظه الله وعافاه)، فلم أستطع القيام بكثير من الأعمال التي كنت أقوم بها في أثناء تواجدي في الكويت. أما في رمضان من هذا العام ۲۰۲۰م، حيث المساجد مغلقة وصلوات الجماعة معطلة، فقد تفرغت لترتيب الحالات وتفقدها بالسؤال عبر الهاتف، وطلب تجديد الأوراق والبيانات، وتذكرت العم الفاضل الذي عرفني بحالة (أم المعاقين)، فهاتفته وطلبت منه تزويدي بكافة البيانات وأرقام الهواتف لأحمل عنه هذه المهمة.
فبادرت بالاتصال عليهم، وتسجيل بياناتهم، وكان من بينهم أم المعاقين، وقد أخبرني العم الفاضل بوفاة زوجها المسن قبل أشهر. فاتصلت عليها، وسألت عنها، فأخبرتني أن زوجها توفي منذ ستة أشهر، فقلت: وكيف حال الأولاد؟ حينها بكت المرأة وهي تقول: الأولاد كما تعلم عن حالهم، لكن ابني الكبير وهو أخفهم إعاقة .. جمعنا له مالاً وبعثناه إلى أمريكا للدراسة، وكنت متفائلة أن يرجع بالشهادة، ويلقى وظيفة جيدة، ويسد حاجتنا، لكنه ما إن ذهب هناك أصيب بالسرطان، وتوفاه الله ودفن هناك. فدعوت له بالرحمة - ودمع قلبي يهدر رأفة على حال هذه المرأة مع الابتلاءات المتتابعة نسأل الله السلامة والعافية .. ثم قلت لها : هل من الممكن أن أسدد لكم - عن طريق بعض المحسنين - الإيجارات المتأخرة ؟ قالت: ما عندنا إيجارات متأخرة، إيجار شهر إبريل ومايو سددتهم لنا فلانة الفلاني، وفلانة الفلاني. فقلت: هل من الممكن أن
أبعث لكم مالاً للمصرف والطعام؟ قالت: والله ما تحتاج شيئا، أهل الخير وقريباتك لم يقصروا معي. فقلت لها : هذا هاتفي، سأتصل بكم لسداد أجرة شهر يونيو، وإذا نقصكم شيء فاتصلوا بي.
ودعت المرأة وذعت لي كثيراً ثم انتهت المكالمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
محمد الملا الجفيري. من روائع وبدائع القصص الواقعية والافتراضية في الصدقات. الكويت: دار مرويات للطباعة والنشر، 2020م.
الموقع الإلكتروني: